مفهوم ميكانيكيا الكم :
أتت نظرية الكم في بدايات القرن العشرين مثل النظرية النسبية لحل إشكاليات لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها، ويمكن تلخيص بعض هذه الإشكاليات في ما يلي:
- التناقضات في تصور الفيزياء الكلاسيكية لشكل الذرة في ذلك الوقت: ففي بدايات القرن العشرين تم وضع تصور لشكل الذرة مشابه لشكل مجموعتنا الشمسية حيث تتمركز النواة في الوسط وتدور الإلكترونات حولها. غير أنه وبحسب مبادئ الفيزياء الكلاسيكية نفسها فإن الإلكترونات في هذا النموذج ستتعرض لتسارع جذب مركزي نتيجة دورانها حول النواة مما سيؤدي إلى بثها لإشعاع كهرومغناطيسي وهذا بدوره يترتب عليه أن الإلكترونات ستفقد طاقتها شيئا فشيئا وتقترب نتيجة لذلك من النواة حتى تصطدم بها في جزء من الثانية. لذا جاءت الحاجة لنظرية جديدة تعطي نموذجا آخر لتكوين الذرة.
- تعتبر النظرية الكلاسيكية أيضاً أن ألوان الطيف الذري يجب أن تغطي جميع الأطوال الموجية بنفس الشدة، لكن لاحظ الفيزيائيون أن النتائج التجريبية تناقض ذلك بشدة حيث تصدر الذرات المختلفة أطيافاً (موجات ضوئية) لها أطوال موجية خاصة ومحددة جداً.
- تنشأ مشكلة أخرى عندما نتأمل إشكالية الجسم الأسود "وهو جسم يمتص كامل الإشعاع الساقط عليه ليعيد إصداره بالكامل مرة أخرى" حيث فشلت كل المحاولات المستندة إلى الفيزياء الإحصائية التقليدية في تفسير منحنى إشعاع الجسم الأسود خصوصاً عند الترددات العالية وهذا ما عرف لاحقاً باسم الكارثة فوق البنفسجية وبهذا ظهر للعلماء أن قوانين الديناميكا الحرارية أصبحت عاجزة عن تفسير هذه الظاهرة.
في عام 1900 اقترح ماكس بلانك حل لتفسير هذه الظاهرة بفكرة ثورية فقد افترض أن الموجات الكهرومغناطيسية لا تصدر بشكل مستمر متصل بل على شكل كميات متقطعة سميت كمات حيث يعتبر الكم أصغر مقدار معين من الطاقة يمكن تبادله بين الأجسام وفق تردد معين وترتبط طاقة الكم بتردد الإشعاع المرافق له:
حيث تعبر عن طاقة الكم الصادر، ν عن تردد الإشعاع، ثابت أصبح يدعى بثابت بلانك.
وبهذا الافتراض تم إعتبار أنه كلما زاد تردد الإشعاع الصادر من الجسم الأسود كلما قلت عدد كمات هذا الإشعاع مما يعني إنخفاض شدته بشكل كبير جداً عند الوصول إلى تردد الموجات فوق البنفسجية وبهذا تكون فروض بلانك قد قدمت تفسير مقبول لظاهرة إشعاع الجسم الأسود وفسر ما اعتبرته الفيزياء التقليدية كارثة فوق بنفسجية.
تأتي إشكاليات أخرى من فهم طبيعة الضوء ففي حين يؤكد نيوتن أن طبيعة الضوء جسيمية (فهو مؤلف من جسيمات صغيرة، وتؤيده في ذلك العديد من التجارب، نجد أن توماس يونغ يؤكد أن الضوء ذو طبيعة موجية وتؤكد تجربة شقي يونغ حول تداخل وحيود الضوء هذه الطبيعة الموجية، وفي عام 1924 اقترح لويس دي بروي أن ينظر إلى جسيمات المادة وذراتها أيضا على أنها جسيمات تسلك سلوكا موجياً أحيانا مقترحاً معادلة تشابه معادلة بلانك:
.
حيث: λ, طول الموجة، وp كمية الحركة.
بدأت هنا تتضح ملامح صورة جديدة للعالم تتداخل فيها الطبيعة الجسيمة والطبيعية الموجية للجسيمات الدقيقة بحيث يصعب التمييز بينهما وكان هذا ما مهد الطريق لظهور ميكانيكا الكم عندما وضع نيلز بور نظرية عن تصور تركيب الذرة التي لا تسمح للاندفاع الزاوي بأخذ قيم سوى المضاعفات الصحيحة للقيمة:
حيث تعبر عن قيم الاندفاع الزاوي، عدد صحيح (3,2,1,...)
وهكذا ظهرت مستويات للطاقة المستقرة يمكن وضع الالكترونات الدائرة فيها مفسرة ثبات التركيب والخطوط الطيفية للذرات، لكن هذا لم يكن سوى البداية.
في عام 1927 قام العالم الألماني هايزنبرغ بتقديم مبدأ عدم التأكد الذي ينص على عدم قدرتنا على تحديد موضع وسرعة الجسيمات الكمية بآن واحد وبدقة متناهية.
كانت هذه بداية سلسلة من الصدمات التي تلقتها نظرتنا الكلاسيكية للعالم والتي تحطمت معها كل الصورة الميكانيكية الآلية التي سادت حول العالم بعد انتصارات فيزياء نيوتن المدوية في القرنين السابقين. قام هايزنبرغ بصياغة قواعد ميكانيكا الكم بصياغة جبر المصفوفات فيما عرف بعد ذلك بميكانيكا المصفوفات سنة 1926، ظهر شرودنجر بمعادلته الموجية الشهيرة التي تبين تطور دالة موجة الجسيم الكمي مع الزمن وعرفت تلك الصياغة بالميكانيكا الموجية، لكن رغم الإختلاف الظاهري العميق بين الصياغتين فإن نتائجهما كانت متطابقة، هذا ما دفع بول ديراك بعد ذلك لتوحيدهما في إطار شامل عرف بنظرية التحويل. يمكن أن تصل فيزياء الكم إلى تطبيقات كثيرة تبلغ حتى تفسير ظواهر الإدراك البشري وتطبيق النظرية على الأجسام الكبيرة لا سيما بتداخلها مع نظرية الألعاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق